الاعلامى خالد مصطفى يكتب : الجلابية ليست مجرد قماش بل هى حكاية وطن
لم تكن الجلابية يوماً قطعة قماش تُلبس في الريف
أو الصعيد فحسب بل كانت وما زالت خريطة لهوية كاملة حين يرتديها الفلاح في الحقل أو الرجل الصعيدي في عرس أو جنازة فهو لا يرتدي لباساً بل يرتدي تاريخاً تاريخ الجدود الأرض والنيل لكن المشهد الذي جمع الحاج رشاد بزوجته أمام المتحف المصري الكبير وهو يبتسم في فخر بزيه البلدي تحول فجأة إلى عاصفة غضب وكرامة لمجرد أن حدى السيدات قررت أن هذا المظهر لا يليق بتمثيل مصر أمام العالم لكن دخول رشاد المتحف المصري الكبير مرتدياً جلابيته البلدي ووقف أمام تماثيل أجداده الفراعنة يبتسم كما لو أنه يقول أنا منكم و أنتم منى ففي لحظة تحولت الصورة البسيطة إلى معركة هوية كلمة واحدة من إعلامية مغرورة على فيسبوك قالت إن الجلابية لا تليق بتمثيل مصر فاشتعلت النار في قلوب المصريين
نار لا يطفئها إلا احترام الجذور والتاريخ فالمنشور الصغير على الذى كتبته إعلامية تدعى سمر فودة قالت فيه إن الجلابية لا تمثل مصر وكأن تمثيل الوطن حكر على بدلة غربية أو فستان سهرة فاشتعلت القلوب قبل التعليقات لأن الناس شعرت أن هناك من يحتقر ما هو شعبي و لأن البساطة أصبحت تُعامل كعيب ولأن من يلبس الجلابية اليوم هو من بنى الأهرامات بالأمس وهو من زرع القطن والقمح كي نعيش فالأزمة لم تكن أزمة لبسبل أزمة نظرة فالنظرة كانت متعالية حيث حاولت أن تفصل بين مصر المتحفة ومصر الحقيقية مصر التي في الحقول في الصعيد في الأزقة في العرق وفى الكيان فالمتحف المصري الكبير لم يُبنى ليعرض مصر المستوردة بل مصر الأصلية تماثيل الفراعنة كانت تُنحت بأيدى غبشاء من الطين بملابس بسيطة لكنها اليوم تُبهر العالم إذن لماذا نستحي من البساطة وقد كانت سر عظمتنا ونجاحنا فحين دخل عم رشاد المتحف بجلابيته دخل التاريخ إلى التاريخ فهو لم يكن زائراً بل امتداداً لأجداده الذين حفروا الصخور في الجيزة قبل آلاف السنين فالجلابية ليست زياً ريفياً بل رمزاً للاتزان والستر والوقار إنها اللباس الذي لا يُفصل في بيوت الأزياء بل في بيوت القلوب ومن العيب أن نعتبرها علامة تخلف بينما يرتدي الغرب ملابس فولكلورية في مهرجاناتهم بفخر وإعتزاز فالعالم اليوم يحتفي بالأصالة ونحن نحاول أحياناً طمسها باسم الشياكة المستعارة لكن لا شياكة فوق الكرامة جدير بالذكر ان الإعلامية التي بدأت العاصفة اعتذرت وربما نُسامحها كبشر يخطئ ويُصلح لكن الدرس يجب أن يبقى لأن الاحترام للزي الشعبي هو احترام لروح الأمة وأن الجلابية الصعيدية ليست مجرد لباس بل علمٌ غير مرفوع على سارية علمٌ يمشي على قدميه في شوارع مصر فالجلابية ليست ثوباً من قطن رخيص بل هى نسيج لتاريخ طويل هي عباءة الأرض التي يزرعها الفلاح بيده هي عرق الرجل الصعيدي في الصيف القاسي هي بساطة المصري اللي بيستحي من الغلط قبل
ما يستحي من الفقر من قال إن التمثيل أمام العالم يعني أن نتنكر في بدلة غربية العالم يصفق للهنود بلباسهم ولليابانيين بكيمونوهم وللأفارقة بألوانهم فلماذا نُخفي نحن هويتنا تحت كرافات لا تشبهنا فالمتحف المصري الكبير لا يضم تماثيل من ذهب بل وجوهاً من طين وعرق وحب للوطن كل قطعة فيه صنعت بأيدي رجال يشبهون عم رشاد تماماً فهل يُعقل أن نمنح أحفادهم تذاكر للدخول ثم نُهين ما يرتدونه من إرثهم فالجلابية التي سخر منها البعض هي نفس الروح التي بنت الأهرامات إنها اللباس الذي لبسه المصري وهو يحرث وهو يحارب وهو يربى أبناءه على كلمة الستر فالغضب الذي اجتاح الناس لم يكن من أجل قطعة قماش بل من أجل احترام الذات فحين تُهان الجلابية تُهان القرية كلها تُهان الأم التي غزلت الخيوط والرجل الذي سهر على الزرع والولد الذي حلم يطلع راجل محترم في بلده ولذلك خرجت أصوات المصريين من كل الطبقات فنانين مثقفين طلاب عمال تقول في صوت واحد فالإعلامية اعتذرت وهذا جميل لكن المعركة لم تكن معها وحدها
هي معركة بين السطحية والوعي بين من يرى الجمال في البراند ومن يراه في البركة نحن نحتاج أن نُعلم أبناءنا أن الهوية لا تُصنع في المولات بل في الحقول في الصعيد في الضمير وأن الأناقة ليست في الثوب بل في القلب وأن من يلبس الجلابية قد يكون أنبل ألف مرة ممن يلبس بدلة ولا يعرف معنى الرجولة وفي النهاية خرج عم رشاد من المتحف دون أن يرد بكلمة لأن صمته كان أبلغ من أي جدال ابتسامته وحدها كانت درساً في الكبرياء في الرضا في معنى أن تكون مصرياً أصيلاً فالجلابية التي أراد البعض أن يُهينها جعلت مصر كلها تنتفض لتدافع عنها فصارت رمزاً جديداً ليس فقط للبساطة بل للكرامة الوطنية ولعل العالم كله يفهم اليوم أن مصر ليست في المتاحف فقط بل في الناس البسطاء اللي ما زالوا حافظين شكلها الحقيقي